سورة الرحمن
الرَّحْمَنُ *1* عَلَّمَ الْقُرْآنَ *2* خَلَقَ الْإِنسَانَ *3* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ *4*
التعريف بسورة الرحمن
هذه السورة المكية ذات نسق خاص ملحوظ . إنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير , وأعلام بآلاء الله الباهرة الظاهرة , في جميل صنعه , وإبداع خلقه ; وفي فيض نعمائه ; وفي تدبيره للوجود وما فيه ; وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم . . وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين:الإنس والجن المخاطبين بالسورة على السواء , في ساحة الوجود , على مشهد من كل موجود , مع تحديهما إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله , تحديا يتكرر عقب بيان كل نعمة من نعمه التي يعددها ويفصلها , ويجعل الكون كله معرضا لها , وساحة الآخرة كذلك .
ورنة الإعلان تتجلى في بناء السورة كله , وفي إيقاع فواصلها . . تتجلى في إطلاق الصوت إلى أعلى , وامتداد التصويت إلى بعيد ; كما تتجلى في المطلع الموقظ الذي يستثير الترقب والإنتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار . . الرحمن . . كلمة واحدة . مبتدأ مفردا . . الرحمن كلمة واحدة في معناها الرحمة , وفي رنتها الإعلان , والسورة بعد ذلك بيان للمسات الرحمة ومعرض لآلاء الرحمن .
ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان . تسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان .
ثم يذكر خلق الإنسان , ومنحه الصفة الإنسانية الكبرى . . البيان . .
ومن ثم يفتح صحائف الوجود الناطقة بآلاء الله . . الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء المرفوعة . والميزان الموضوع . والأرض وما فيها من فاكهة ونخل وحب وريحان . والجن والإنس . والمشرقان والمغربان . والبحران بينهما برزخ لا يبغيان , وما يخرج منهما وما يجري فيهما .
فإذا تم عرض هذه الصحائف الكبار . عرض مشهد فنائها جميعا . مشهد الفناء المطلق للخلائق , في ظل الوجود المطلق لوجه الله الكريم الباقي . الذي إليه تتوجه الخلائق جميعا , ليتصرف في أمرها بما يشاء .
وفي ظل الفناء المطلق والبقاء المطلق يجيء التهديد المروع والتحدي الكوني للجن والإنس:*سنفرغ لكم أيها الثقلان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا . لا تنفذون إلا بسلطان . فبأي آلاء ربكما تكذبان , يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران . فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*. .
ومن ثم يعرض مشهد النهاية . مشهد القيامة . يعرض في صورة كونية . يرتسم فيها مشهد السماء حمراء سائلة , ومشهد العذاب للمجرمين , والثواب للمتقين في تطويل وتفصيل .
ثم يجيء الختام المناسب لمعرض الآلاء:*تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام*. .
إن السورة كلها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير . إعلان ينطلق من الملأ الأعلى , فتتجاوب به أرجاء الوجود . ويشهده كل من في الوجود وكل ما في الوجود . .
الدرس الأول:1 - 4 الرحمن خالق الإنسان ومعلمه القرآن والبيان
*الرحمن*. . . . . . . . . . .
هذا المطلع المقصود بلفظه ومعناه , وإيقاعه وموسيقاه .
*الرحمن*. . . . . . . . . . .
بهذا الرنين الذي تتجاوب أصداؤه الطليقة المديدة المدوية في أرجاء هذا الكون , وفي جنبات هذا الوجود .
*الرحمن*. . . . . . . . . . .
بهذا الإيقاع الصاعد الذاهب إلى بعيد , يجلجل في طباق الوجود , ويخاطب كل موجود ; ويتلفت على رنته كل كائن , وهو يملأ فضاء السماوات والأرض , ويبلغ إلى كل سمع وكل قلب . .
*الرحمن*. . . . . . . . . . .
ويسكت . وتنتهي الآية . ويصمت الوجود كله وينصت , في ارتقاب الخبر العظيم . بعد المطلع العظيم .
ثم يجيء الخبر المترقب , الذي يخفق له ضمير الوجود . . .
*علم القرآن . خلق الإنسان علمه البيان . الشمس والقمر بحسبان . والنجم والشجر يسجدان . والسماء رفعها ووضع الميزان . ألا تطغوا في الميزان . وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان . والأرض وضعها للأنام . فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام . والحب ذو العصف والريحان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*.
هذا هو المقطع الأول في بيان آلاء الرحمن . وهذا هو الخبر الأول بعد ذلك الإعلان . .
*علم القرآن*
هذه النعمة الكبرى التي تتجلى فيها رحمة الرحمن بالإنسان . . القرآن . . الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود . ومنهج السماء للأرض . الذي يصل أهلها بناموس الوجود ; ويقيم عقيدتهم وتصوراتهم وموازينهم وقيمهم ونظمهم وأحوالهم على الأساس الثابت الذي يقوم عليه الوجود . فيمنحهم اليسر والطمأنينة والتفاهم والتجاوب مع الناموس .
القرآن الذي يفتح حواسهم ومشاعرهم على هذا الكون الجميل , كأنما يطالعهم أول مرة , فيجدد إحساسهم بوجودهم الذاتي , كما يجدد إحساسهم بالكون من حولهم . ويزيد فيمنح كل شيء من حولهم حياة نابضة تتجاوب وتتعاطف مع البشر ; فإذا هم بين أصدقاء , ورفاق أحباء , حيثما ساروا أو أقاموا , طوال رحلتهم على هذا الكوكب !
القرآن الذي يقر في أخلادهم أنهم خلفاء في الأرض , أنهم كرام على الله , وأنهم حملة الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال . فيشعرهم بقيمتهم التي يستمدونها من تحقيق إنسانيتهم العليا , بوسيلتها الوحيدة . . الإيمان . . الذي يحيي في أرواحهم نفخة الله . ويحقق نعمته الكبرى على الإنسان .
ومن ثم قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان . فبه يتحقق في هذا الكائن معنى الإنسان .
*خلق الإنسان علمه البيان*. .
وندع - مؤقتا - خلق الإنسان ابتداء , فسيأتي ذكره في مكانه من السورة بعد قليل . إذ المقصود من ذكره هنا هو ما تلاه من تعليمه البيان .
إننا نرى الإنسان ينطق ويعبر ويبين , ويتفاهم , ويتجاوب مع الآخرين . . فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة , وضخامة هذه الخارقة , فيردنا القرآن إليها , ويوقظنا لتدبرها , في مواضع شتى .
فما الإنسان ? ما أصله ? كيف يبدأ ? وكيف يعلم البيان ?
إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم . خلية ساذجة صغيرة , ضئيلة , مهينة . ترى بالمجهر , ولا تكاد تبين . وهي لا تبين !!!
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ *5*
ولكن هذه الخلية ما تلبث أن تكون الجنين . الجنين المكون من ملايين الخلايا المنوعة . . عظمية . وغضروفية . وعضلية . وعصبية . وجلدية . . ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ووظائفها المدهشة:السمع . البصر . الذوق . الشم . اللمس . ثم . . ثم الخارقة الكبرى والسر الأعظم:الإدراك والبيان , والشعور والإلهام . . كله من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة , التي لا تكاد تبين , والتي لا تبين !
كيف ? ومن أين ? من الرحمن , وبصنع الرحمن .
فلننظر كيف يكون البيان ?: *والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة*. .
إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب . . اللسان والشفتان والفك والأسنان . والحنجرة والقصبة الهوائية والشعب والرئتان . . إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية وهي حلقة في سلسلة البيان . وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة , المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب . ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه . ولا ندري شيئا عن ماهيته وحقيقته . بل لا نكاد ندري شيئا عن عمله وطريقته !
كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد ?
إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة . مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن
إنها تبدأ شعورا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين . هذا الشعور ينتقل - لا ندري كيف - من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية . . المخ . . ويقال:إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب . واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه . وهنا تطرد الرئة قدرا من الهواء المختزن فيها , ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتية صنعها الإنسان , ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام ! فيصوت الهواء في الحنجرة صوتا تشكله حسبما يريد العقل . . عاليا أو خافتا . سريعا أو بطيئا . خشنا أو ناعما . ضخما أو رفيعا . . إلى آخر أشكال الصوت وصفاته . ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان , يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة . وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين , يتم فيه الضغط المعين , ليصوت الحرف بجرس معين . .
وذلك كله لفظ واحد . . ووراءه العبارة . والموضوع . والفكرة . والمشاعر السابقة واللاحقة . وكل منها عالم عجيب غريب , ينشأ في هذا الكيان الإنساني العجيب الغريب , بصنعة الرحمن , وفضل الرحمن .
الدرس الثاني:5 - 13 خلق السماوات والأرض وما فيهما بميزان دقيق ونعم الرحمن على الإنسان
ثم يستطرد في بيان آلاء الرحمن في المعرض الكوني العام:
*الشمس والقمر بحسبان*. .
حيث تتجلى دقة التقدير , في تنسيق التكوين والحركة , بما يملأ القلب روعة ودهشة , وشعورا بضخامة هذه الإشارة , وما في طياتها من حقائق بعيدة الآماد عميقة الأغوار .
إن الشمس ليست هي أكبر ما في السماء من أجرام . فهنالك في هذا الفضاء الذي لا يعرف البشر له حدودا , ملايين الملايين من النجوم , منها الكثير أكبر من الشمس وأشد حرارة وضوءا . فالشعرى اليمانية أثقل من الشمسبعشرين مرة , ونورها يعادل خمسين ضعف نور الشمس . والسماك الرامح حجمه ثمانون ضعف حجم الشمس ونوره ثمانية آلاف ضعف . وسهيل أقوى من الشمس بألفين وخمسمائة مرة . . . وهكذا . . .
ولكن الشمس هي أهم نجم بالنسبة لنا - نحن سكان الكوكب الأرضي الصغير , الذي يعيش هو وسكانه جميعا على ضوء الشمس وحرارتها وجاذبيتها .
وكذلك القمر وهو تابع صغير للأرض . ولكنه ذو أثر قوي في حياتها . وهو العامل الأهم في حركة الجزر والمد في البحار .
وحجم الشمس , ودرجة حرارتها , وبعدها عنا , وسيرها في فلكها . وكذلك حجم القمر وبعده ودورته . . كلها محسوبة حسابا كامل الدقة بالقياس إلى آثارهما في حياة الأرض . وبالقياس إلى وضعهما في الفضاء مع النجوم والكواكب الأخرى . .
ونتناول طرفا من الحساب الدقيق في علاقتهما بكوكبنا الأرضي وما عليه من حياة وأحياء . .
إن الشمس تبعد عن الأرض باثنين وتسعين ونصف مليون من الأميال . ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاحترقت الأرض أو انصهرت أو استحالت بخارا يتصاعد في الفضاء ! ولو كانت أبعد منا لأصاب التجمد والموت ما على الأرض من حياة ! والذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءا من مليوني جزء من حرارتها . وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا . ولو كانت الشعرى بضخامتها وإشعاعها هي التي في مكان الشمس منا لتبخرت الكرة الأرضية , وذهبت بددا
وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض . فلو كان أكبر من هذا لكان المد الذي يحدثه في بحار الأرض كافيا لغمرها بطوفان يعم كل ما عليها . وكذلك لو كان أقرب مما وضعه الله بحسابه الذي لا يخطئ مقدار شعرة !
وجاذبية الشمس وجاذبية القمر للأرض لهما حسابهما في توازن وضعها , وضبط خطاها في هذا الفضاء الشاسع الرهيب , الذي تجري فيه مجموعتنا الشمسية كلها بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة في اتجاه واحد نحو برج الجبار . ومع هذا لا تلتقي بأي نجم في طريقها على ملايين السنين !
وفي هذا الفضاء الشاسع الرهيب لا يختل مدار نجم بمقدار شعرة , ولا يختل حساب التوازن والتناسق في حجم ولا حركة .
وصدق الله العظيم . .*الشمس والقمر بحسبان*.
*والنجم والشجر يسجدان*. .
وقد كانت الإشارة السابقة إلى الحساب والتقدير في بناء الكون الكبير . فأما هذه فهي إشارة إلى اتجاه هذا الكون وارتباطه . وهي إشارة موحية إلى حقيقة هادية .
إن هذا الوجود مرتبط ارتباط العبودية والعبادة بمصدره الأول , وخالقه المبدع . والنجم والشجر نموذجان منه , يدلان على اتجاهه كله . وقد فسر بعضهم النجم بأنه النجم الذي في السماء . كما فسره بعضهم بأنه النبات الذي لا يستوي على سوقه كالشجر . وسواء كان هذا أم كان ذاك فإن مدى الإشارة في النص واحد . ينتهي إلى حقيقة اتجاه هذا الكون وارتباطه .
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ *6* وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ *7*
والكون خليقة حية ذات روح . روح يختلف مظهرها وشكلها ودرجتها من كائن إلى كائن . ولكنها في حقيقتها واحدة .
ولقد أدرك القلب البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة السارية في الكون كله . وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه . أدركها بالإلهام اللدني فيه . ولكنها كانت تغيم عليه , وتتوارى عنه كلما حاول اقتناصها بعقله المقيد بتجارب الحواس !
ولقد استطاع أخيرا أن يصل إلى أطراف قريبة من حقيقة الوحدة في بناء الكون . ولكنه لا يزال بعيدا عن الوصول إلى حقيقة روحه الحية عن هذا الطريق !
والعلم يميل اليوم إلى افتراض أن الذرة هي وحدة بناء الكون ; وأنها في حقيقتها مجرد إشعاع . وأن الحركة هي قاعدة الكون , والخاصية المشتركة بين جميع أفراده .
فإلى أين يتجه الكون بحركته التي هي قاعدته وخاصيته ?
القرآن يقول:إنه يتجه إلى مبدعه بحركة روحه - وهي الحركة الأصلية فحركة ظاهره لا تكون إلا تعبيرا عن حركة روحه - وهي الحركة التي تمثلها في القرآن آيات كثيرة منها هذه:*والنجم والشجر يسجدان*. . ومنها *تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده , ولكن لا تفقهون تسبيحهم*. . ومنها: *ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات . كل قد علم صلاته وتسبيحه*. .
وتأمل هذه الحقيقة , ومتابعة الكون في عبادته وتسبيحه , مما يمنح القلب البشري متاعا عجيبا , وهو يشعر بكل ما حوله حيا يعاطفه ويتجه معه إلى خالقه وهو في وقفته بين أرواح الأشياء كلها , وهي تدب فيها جميعا , وتحيلها إخوانا له ورفقاء !
إنها إشارة ذات أبعاد وآماد وأعماق . .
*والسماء رفعها ووضع الميزان . ألا تطغوا في الميزان . وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان*.
والإشارة إلى السماء - كباقي الإشارات القرآنية إلى مجالي هذا الكون - تقصد إلى تنبيه القلب الغافل , وإنقاذه من بلادة الألفة , وإيقاظه لعظمة هذا الكون وتناسقه وجماله , وإلى قدرة اليد التي أبدعته وجلالها .
والإشارة إلى السماء - أيا كان مدلول السماء - توجه النظر إلى أعلى . إلى هذا الفضاء الهائل السامق الذي لا تبدو له حدود معروفة ; والذي تسبح فيه ملايين الملايين من الأجرام الضخمة , فلا يلتقي منها اثنان , ولا تصطدم مجموعة منها بمجموعة . ويبلغ عدد المجموعة أحيانا ألف مليون نجم , كمجموعة المجرة التي ينتسب إليها عالمنا الشمسي , وفيها ما هو أصغر من شمسنا وما هو أكبر ألاف المرات . شمسنا التي يبلغ قطرها مليونا وثلث مليون كيلو متر !!! وكل هذه النجوم , وكل هذه المجموعات تجري في الكون بسرعات مخيفة , ولكنها في هذا الفضاء الهائل ذرات سابحة متباعدة , لا تلتقي , ولا تتصادم !
وإلى جوار هذه العظمة في رفع هذه السماء الهائلة الوسيعة *وضع الميزان*ميزان الحق . وضعه ثابتا راسخا مستقرا . وضعه لتقدير القيم . قيم الأشخاص والأحداث والأشياء . كي لا يختل تقويمها , ولا يضطرب وزنها , ولا تتبع الجهل والغرض والهوى . وضعه في الفطرة ووضعه في هذا المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسالات وتضمنه القرآن:
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ *8* وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ *9* وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ *10* فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ *11* وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ *12*
وضع الميزان . .*ألا تطغوا في الميزان*. . فتغالوا وتفرطوا . .*وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان*. . ومن ثم يستقر الوزن بالقسط , بلا طغيان ولا خسران .
ومن ثم يرتبط الحق في الأرض وفي حياة البشر , ببناء الكون ونظامه . يرتبط بالسماء في مدلولها المعنوي حيث يتنزل منها وحي الله ونهجه . ومدلولها المنظور حيث تمثل ضخامة الكون وثباته بأمر الله وقدرته . . ويلتقي هذان المدلولان في الحس بإيقاعهما وظلالهما الموحية .
*والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام . والحب ذو العصف والريحان*.
ونحن لطول استقرارنا على هذه الأرض , وألفتنا لأوضاعها وظواهرها , ولوضعنا نحن كذلك عليها . نحن لهذا كله لا نكاد نحس يد القدرة التي "وضعت" هذه الأرض للأنام . وجعلت استقرارنا عليها ممكنا وميسورا إلى الحد الذي لا نكاد نشعر به . ولا ننتبه إلى ضخامة معنى الاستقرار , وعظمة نعمة الله علينا فيه إلا بين الحين والحين حين يثور بركان , أو يمور زلزال , فيؤرجح هذه الأرض المطمئنة من تحتنا , فتضطرب وتمور . عندئذ نتذكر معنى الاستقرار الذي نستمتع به على هذه الأرض بنعمة الله .
والبشر خليقون أن يتذكروا هذه الحقيقة في كل لحظة , لو أنهم ألقوا بالهم إلى أن أرضهم هذه التي يركنون إليها , إن هي إلا هباءة سابحة في فضاء الله الوسيع . هباءة تسبح في هذا الفضاء المطلق . تسبح حول نفسها بسرعة نحو ألف ميل في الساعة . وتسبح - مع هذا - حول الشمس بسرعة ستين ألف ميل في الساعة . بينما هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها تبعد بجملتها في هذا الفضاء بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة متجهة في اتجاه واحد نحو برج الجبار في السماء !
أجل لو أنهم ألقوا بالهم إلى أنهم محمولون على هذه الهباءة السابحة التي تنهب الفضاء نهبا بهذه السرعة , معلقة في أجوازه بغير شيء إلا قدرة الله . . لظلوا أبدا معلقي القلوب والأبصار , واجفي الأرواح والأوصال , لا يركنون إلا للواحد القهار الذي وضع الأرض للأنام , وأقرهم عليها هذا الإقرار !!
ولقد يسر لهم فيها الحياة , وهي تدور بهم حول نفسها وحول الشمس , وتركض مع الشمس وتوابعها بتلك السرعة المذهلة . وقدر فيها أقواتها التي يذكر منها هنا الفاكهة - ويخص منها النخل ذات الأكمام - [ والكم كيس الطلع الذي ينشأ منه الثمر ] ليشير إلى جمال هيئتها بجانب فائدة ثمرتها . ويذكر منها الحب ذا الورق والسيقان التي تعصف وتصير طعاما للماشية . ويذكر منها الريحان . النبات ذا الرائحة . . وهي ألوان من نبات الأرض شتى . منها ما هو طعام للإنسان ومنها ما هو طعام للدواب , ومنها ما هو روح للناس ومتاع .
وعند هذا المقطع من تعداد أنعم الله وآلائه:تعليم القرآن . وخلق الإنسان . وتعليمه البيان . وتنسيق الشمس والقمر بحسبان . ورفع السماء ووضع الميزان . ووضع الأرض للأنام . وما فيها من فاكهة ونخل وحب وريحان . .
عند هذا المقطع يهتف بالجن والإنسان , في مواجهة الكون وأهل الكون:*فبأي آلاء ربكما تكذبان وهو سؤال للتسجيل والإشهاد . فما يملك إنس ولا جان أن يكذب بآلاء الرحمن في مثل هذا المقام .
الدرس الثالث:14 - 16 خلق الإنسان والجان
ثم ينتقل من الامتنان عليهما بآلاء الله في الكون , إلى الامتنان عليهما بآلائه في ذوات أنفسهما , وفي خاصة وجودهما وإنشائهما:
*خلق الإنسان من صلصال كالفخار . وخلق الجان من مارج من نار . . فبأي آلاء ربكما تكذبان.
ونعمة الإيجاد والإنشاء أصل النعمة . والمسافة بين الوجود وعدم الوجود ابتداء مسافة لا تقاس أبعادها بأي مقياس مما يألفه البشر . فجميع المقاييس التي في أيدي البشر أو التي تدركها عقولهم , هي مقاييس للفارق بين موجود وموجود . أما المسافة بين الموجود وغير الموجود فلا تدركها مدارك البشر بحال ! ونحسب الجن كذلك , فإن هم إلا خلق مقاييسه مقاييس المخلوقات !
فحين يمتن الله على الجن والإنس بنعمة الإيجاد والإنشاء ; فإنما يمتن عليهما بالنعمة التي تفوق حد الإدراك .
ثم يقرر الحق سبحانه مادة خلق الإنس والجن , وهي كذلك من خلق الله . والصلصال:الطين إذا يبس وصار له صوت وصلصلة عند الضرب عليه . وقد تكون هذه حلقة في سلسلة النشأة من الطين أو من التراب . كما أنها قد تكون تعبيرا عن حقيقة الوحدة بين مادة الإنسان ومادة الأرض في عناصر التكوين .
[ وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي من العناصر ما تحتويه الأرض . فهو يتكون من الكربون , والأكسجين , والأيدروجين , والفوسفور , والكبريت , والآزوت , والكالسيوم , والبوتاسيوم , والصوديوم , والكلور , والمغنسيوم , والحديد , والمنجنيز , والنحاس , واليود , والفلورين , والكوبالت , والزنك , والسلكون , والألمنيوم . وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب . وإن اختلفت نسبها في إنسان عن الآخر , وفي الإنسان عن التراب . إلا أن أصنافها واحدة ] .
إلا أن هذا الذي أثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمي للنص القرآني . فقد تكون الحقيقة القرآنية تعني هذا الذي أثبته العلم , أو تعني شيئا آخر سواه . وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب , أو طين أو صلصال .
والذي ننبه إليه بشدة هو ضرورة عدم قصر النص القرآني على كشف علمي بشري , قابل للخطأ والصواب , وقابل للتعديل والتبديل , كلما اتسعت معارف الإنسان وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة . فإن بعض المخلصين من الباحثين يسارعون إلى المطابقة بين مدلول النصوص القرآنية والكشوف العلمية - تجريبية أو افتراضية - بنية بيان ما في القرآن من إعجاز . فالقرآن معجز سواء طابقت الكشوف العلمية المتأرجحة نصوصه الثابتة أم لم تطابقها . ونصوصه أوسع مدلولا من حصرها في نطاق تلك الكشوف القابلة دائما للتبديل والتعديل , بل للخطأ والصواب من الأساس ! وكل ما يستفاد من الكشوف العلمية في تفسير نصوص القرآن , هو توسيع مدلولها في تصورنا كلما أطلعنا العلم على شيء مما تشير إليه إشارات مجملة من آيات الله في الأنفس والآفاق , دون أن يحمل النص القرآني على أن مدلوله هو هذا الذي كشفه العلم . إنما جواز أن يكون هذا بعض ما يشير إليه .
فأما خلق الجان من مارج من نار . فمسألة خارجة عن حدود العلوم البشرية . والمصدر الواحد فيها هو هذا القرآن . خبر الله الصادق . الذي خلق وهو أعلم بمن خلق . . والمارج:المشتعل المتحرك كألسنة النار مع الرياح ! وللجان قدرة على الحياة في هذه الأرض مع الإنس . ولكنا لا ندري كيف يعيش الجان وقبيله . فأما الأمر المستيقن فهو أنهم مخاطبون بهذا القرآن كما سبق بيانه عند تفسير قوله تعالى: *وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . .*وكما هو الحال هنا في سورة الرحمن .
والخطاب هنا للجن والإنس , لتذكيرهما بنعمة الوجود . كل من الأصل الذي أنشأه الله منه . وهي النعمةالتي تقوم عليها سائر النعم . ومن ثم يعقب عليها بتعقيب التسجيل والإشهاد العام:*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*. . ولا تكذيب في هذا المقام المشهود !
الدرس الرابع:17 - 18 الله رب المشرقين والمغربين
*رب المشرقين ورب المغربين . فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*.
وهذه الإشارة التي تملأ القلب بفيض غامر من الشعور بوجود الله , حيثما توجه , وحيثما تلفت , وحيثما امتد به النظر حوله في الآفاق . . فحيث الشروق وحيث الغروب هناك الله . . ربوبيته ومشيئته وسلطانه , ونوره وتوجيهه وهدايته . .
والمشرقان والمغربان قد يكون المقصود بهما شروق الشمس وشروق القمر . وغروبهما كذلك , بمناسبة ذكر الشمس والقمر فيما تقدم من آلاء الله . وقد يكون المقصود مشرقي الشمس المختفلي الموضع في الصيف والشتاء ومغربيها كذلك .
وعلى أية حال فإن ظلال هذه الإشارة هي الأولى بالالتفات . ظلال الاتجاه إلى المشرق والمغرب , والشعور بالله هناك , والإحساس بيده تحرك الكواكب والأفلاك , ورؤية نوره وربوبيته في الآفاق هنا وهناك . والرصيد الذي يؤوب به القلب من هذا التأمل والتدبر والنظر في المشارق والمغارب , والزاد الشعوري الذي تفيض به الجوانح وتذخره الأرواح .
وربوبية الله للمشرقين والمغربين , بعض آلائه في هذا الكون . ومن ثم يجيء التعقيب المعهود في السورة , بعد هذه اللفتة القصيرة:*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*والمشرقان والمغربان فوق أنهما من آيات الله هما من آلاء الله على الجن والإنس , بما يتحقق فيهما من الخير لسكان هذه الأرض جميعا . بل من أسباب الحياة التي تنشأ مع الشروق , وتحتاج كذلك إلى الغروب . ولو أختل أحدهما أو كلاهما لتعطلت أسباب الحياة . .
الدرس الخامس:19 - 25 البحار وما فيها من نعم للإنسان
ومن هذه السبحة البعيدة الآفاق يعود إلى الأرض , وما فيها من ماء , جعله الله بقدر . قدر في نوعه , وقدر في تصريفه , وقدر في الانتفاع به:
مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? . .
والبحران المشار إليهما هما البحر المالح والبحر العذب , ويشمل الأول البحار والمحيطات , ويشمل الثاني الأنهار . ومرج البحرين أرسلهما وتركهما يلتقيان , ولكنهما لا يبغيان , ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر , ووظيفته المقسومة , وبينهما برزخ من طبيعتهما من صنع الله .
وتقسيم الماء على هذا النحو في الكرة الأرضية لم يجئ مصادفة ولا جزافا . فهو مقدر تقديرا عجيبا . الماء الملح يغمر نحو ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية ويتصل بعضه ببعض ; ويشغل اليابس الربع . وهذا القدر الواسع من الماء المالح هو اللازم بدقة لتطهير جو الأرض وحفظه دائما صالحا للحياة .
[ وعلى الرغم من الإنبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور - ومعظمها سام - فإن الهواء باق دون تلوث في الواقع - ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان . . وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة
فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *13* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ *14* وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ *15* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *16* رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ *17* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *18* مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ *19* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ *20* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *21* يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ *22* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *23* وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ *24* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *25* كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *26* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ *27* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *28*
الفسيحة من الماء - أي المحيط - ] .
ومن هذه الكتلة الضخمة الواسعة تنبعث الأبخرة تحت حرارة الشمس ; وهي التي تعود فتسقط أمطارا يتكون منها الماء العذب في جميع أشكاله . وأعظمها الأنهار . والتوافق بين سعة المحيط وحرارة الشمس وبرودة طبقات الجو العليا , والعوامل الفلكية الأخرى هو الذي ينشأ عنه المطر الذي تتكون منه كتلة الماء العذب .
وعلى هذا الماء العذب تقوم الحياة , من نبات وحيوان وإنسان . .
وتصب جميع الأنهار - تقريبا - في البحار . وهي التي تنقل إليها أملاح الأرض , فلا تغير طبيعة البحار ولا تبغي عليها . ومستوى سطوح الأنهار أعلى في العادة من مستوى سطح البحر , ومن ثم لا يبغي البحر على الأنهار التي تصب فيه , ولا يغمر مجاريها بمائه الملح , فيحولها عن وظيفتها ويبغي على طبيعتها ! وبينهما دائما هذا البرزخ من صنع الله . فلا يبغيان .
فلا عجب يذكر البحرين , وما بينهما من برزخ , في مجال الآلاء*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*.
ثم يذكر من آلاء الله في البحرين بعض ما هو قريب منهم في حياتهم .
*يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان*. .
واللؤلؤ في أصله - حيوان . "ولعل اللؤلؤ أعجب ما في البحار , فهو يهبط إلى الأعماق , وهو داخل صدفة من المواد الجيرية لتقيه من الأخطار , ويختلف هذا الحيوان عن الكائنات الحية في تركيبه وطريقة معيشته , فله شبكة دقيقة كشبكة الصياد , عجيبة النسج , تكون كمصفاة تسمح بدخول الماء والهواء والغذاء إلى جوفه , وتحول بين الرمال والحصى وغيرها . وتحت الشبكة أفواه الحيوان , ولكل فم اربع شفاه . فإذا دخلت ذرة رمل , أو قطعة حصى , أو حيوان ضار عنوة إلى الصدفة , سارع الحيوان إلى إفراز مادة لزجة يغطيها بها , ثم تتجمد مكونة لؤلؤة ! وعلى حسب حجم الذرة التي وصلت يختلف حجم اللؤلؤة ! " . .
"والمرجان من عجائب مخلوقات الله , يعيش في البحار على أعماق تتراوح بين خمسة أمتار وثلاث مائة متر , ويثبت نفسه بطرفه الأسفل بصخر أو عشب . وفتحة فمه التي في أعلى جسمه , محاطة بعدد من الزوائد يستعملها في غذائه . فإذا لمست فريسة هذه الزوائد , وكثيرا ما تكون من الأحياء الدقيقة كبراغيث الماء , أصيبت بالشلل في الحال , والتصقت بها , فتنكمش الزوائد وتنحني نحو الفم , حيث تدخل الفريسة إلى الداخل بقناة ضيقة تشبه مريء الإنسان" .
"ويتكاثر هذا الحيوان بخروج خلايا تناسلية منه , يتم بها إخصاب البويضات , حيث يتكون الجنين الذي يلجأ إلى صخرة أو عشب يلتصق به , ويكون حياة منفردة , شأنه في ذلك شأن الحيوان الأصلي" .
"ومن دلائل قدرة الخالق , أن حيوان المرجان يتكاثر بطريقة أخرى هي التزرر . وتبقى الأزرار الناتجة متحدة مع الأفراد التي تزررت منها , وهكذا تتكون شجرة المرجان التي تكون ذات ساق سميكة . تأخذ في الدقة نحو الفروع التي تبلغ غاية الدقة في نهايتها . ويبلغ طول الشجرة المرجانية ثلاثين سنتيمترا . والجزر المرجانية الحية ذات ألوان مختلفة , نراها في البحار صفراء برتقالية , أو حمراء قرنفلية , أو زرقاء زمردية , أو غبراء باهتة " .
والمرجان الأحمر هو المحور الصلب المتبقي بعد فناء الأجزاء الحية من الحيوان , وتكون الهياكل الحجرية مستعمرات هائلة .
"ومن هذه المستعمرات سلسلة الصخور المرجانية المعروفة باسم الحاجز المرجاني الكبير , الموجود بالشمال الشرقي لأستراليا . ويبلغ طول هذه السلسلة , ألفا و 350 ميلا وعرضها 50 ميلا . وهي مكونة من هذه الكائنات الحية الدقيقة الحجم " .
ومن اللؤلؤ والمرجان تتخذ حلى غالية الثمن عالية القيمة , ويمتن الله على عباده بهما , فيعقب على ذكرهما في السورة ذلك التعقيب المشهود:*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*
ثم ينتقل إلى الفلك التي تجري في البحار , كأنها لضخامتها الجبال:
وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام . .
ويجعل هذه الجواري المنشآت*له*سبحانه وتعالى . فهي تجري بقدرته . ولا يحفظها في خضم البحر وثبج الموج إلا حفظه ولا يقرها على سطحه المتماوج إلا كلاءته . فهي له سبحانه . وقد كانت - وما تزال - من أضخم النعم التي من الله بها على العباد , فيسرت لهم من أسباب الحياة والانتقال والرفاهية والكسب ما هو جدير بأن يذكر ولا ينكر . فهو من الضخامة والوضوح بحيث يصعب التكذيب به والإنكار . .*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*.
الدرس السادس:26 - 28 موت المخلوقات وبقاء الحي الخالق
والآن ينتهي هذا الاستعراض في صفحة الكون المنظور , وتطوى صفحة الخلق الفاني , وتتوارى أشباح الخلائق جميعا , ويفرغ المجال من كل حي , ويتجلى وجه الكريم الباقي , متفردا بالبقاء , متفردا بالجلال ; وتستقر في الحس حقيقة البقاء , وهو يشهد ظلال الفناء:
*كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*. .
وفي ظل هذا النص القرآني تخفت الأنفاس , وتخشع الأصوات , وتسكن الجوارح . . . وظل الفناء يشمل كل حي , ويطوي كل حركة , ويغمر آفاق السماوات والأرض . . وجلال الوجه الكريم الباقي يظلل النفوس والجوارح , والزمان والمكان , ويغمر الوجود كله بالجلال والوقار . .
ولا يملك التعبير البشري أن يصور الموقف ; ولا يملك أن يزيد شيئا على النص القرآني , الذي يسكب في الجوانح السكون الخاشع , والجلال الغامر , والصمت الرهيب , والذي يرسم مشهد الفناء الخاوي , وسكون الموت المخيم بلا حركة , ولا نأمة في هذا الكون الذي كان حافلا بالحركة والحياة . ويرسم في الوقت ذاته حقيقة البقاء الدائم , ويطبعها في الحس البشري الذي لا يعرف في تجاربه صورة للبقاء الدائم ; ولكنه يدركها بعمق في ذلك النص القرآني العجيب !
ويعقب على هذه اللمسة العميقة الأثر بنفس التعقيب . فيعد استقرار هذه الحقيقة . حقيقة الفناء لكل من عليها , وبقاء الوجه الجليل الكريم وحده . يعد استقرار هذه الحقيقة نعمة يواجه بها الجن والإنس في معرض الآلاء:*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*. .
وإنها لنعمة , بل هي أساس النعم كلها جميعا . فمن حقيقة الوجود الباقي ينبثق كل هذا الخلق ; وناموسه
يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ *29* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *30* سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ *31* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *32* يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ *33* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *34* يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ *35* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *36*
ونظامه وخصائصه . كما تستقر سننه وقيمه ومآله وجزاؤه . والحي الباقي هو الذي يخلق ويبدع , وهو الذي يحفظ ويكلأ , وهو الذي يحاسب ويجزي . وهو الذي يشرف من أفق البقاء على ساحة الفناء . . فمن حقيقة البقاء إذن تنبثق جميع الآلاء . وما يبزغ هذا العالم وما يستقيم أمره إلا ووراءه هذه الحقيقة . حقيقة البقاء وراء الفناء .
الدرس السابع:29 - 30 تدبير الله لحياة المخلوقين
ومن حقيقة البقاء الدائم وراء الخلق الفاني , تنبثق حقيقة أخرى . . فكل أبناء الفناء إنما يتجهون في كل ما يقوم بوجودهم إلى الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم:
*يسأله من في السماوات والأرض , كل يوم هو في شأن . فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*.
يسأله من في السماوات والأرض , فهو مناط السؤال ; وغيره لا يسأل لأنه فان لا يتعلق به سؤال . . يسألونه وهو وحده الذي يستجيب , وقاصده وحده هو الذي لا يخيب . وما يتجه أحد إلى سواه إلا حين يضل عن مناط السؤال ومعقد الرجاء ومظنة الجواب . وماذا يملك الفاني للفاني وماذا يملك المحتاج للمحتاج ?
وهو - سبحانه - كل يوم هو في شأن . وهذا الوجود الذي لا تعرف له حدود , كله منوط بقدره , متعلق بمشيئته , وهو قائم بتدبيره . هذا التدبير الذي يتناول الوجود كله جملة ; ويتناول كل فرد فيه على حدة ; ويتناول كل عضو وكل خلية وكل ذرة . ويعطي كل شيء خلقه , كما يعطيه وظيفته , ثم يلحظه وهو يؤدي وظيفته .
هذا التدبير الذي يتبع ما ينبت وما يسقط من ورقة , وما يكمن من حبة في ظلمات الأرض , وكل رطب وكل يابس . يتبع الأسماك في بحارها , والديدان في مساربها , والحشرات في مخابئها . والوحوش في أوكارها , والطيور في أعشاشها . وكل بيضة وكل فرخ . وكل جناح . وكل ريشة . وكل خلية في جسم حي .
وصاحب التدبير لا يشغله شأن عن شأن , ولا يند عن علمه ظاهر ولا خاف . .
ومن هذا الشأن شأن العباد في الأرض من إنس وجن . ومن ثم فهو يواجههما بهذه النعمة مواجهة التسجيل والإشهاد:*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*. .
الدرس الثامن:31 - 36 تهديد الإنس والجن وبيان عجزهم
وبتقرير حقيقة البقاء وراء الفناء , وما ينبثق منها من حقيقة الاتجاه الكلي إلى الواحد الباقي , وتعلق مشيئته - سبحانه - بشئون الخلائق وتقديرها وتدبيرها , فضلا منه ومنة على العباد . .
بتقرير هذه الحقيقة الكلية وما ينبثق عنها من حقائق ينتهي الاستعراض الكوني , ومواجهة الجن والإنس به ; ويبدأ مقطع جديد . فيه تهديد وفيه وعيد . تهديد مرعب مفزع , ووعيد مزلزل مضعضع . تمهيدا لهول القيامة الذي يطالع الثقلين في سياق السورة بعد ذاك:
*سنفرغ لكم أيها الثقلان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا . لا تنفذون إلا بسلطان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران . فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*. .
*سنفرغ لكم أيها الثقلان*. .
يا للهول المرعب المزلزل , الذي لا يثبت له إنس ولا جان . ولا تقف له الجبال الرواسي ولا النجوم والأفلاك !
الله . جل جلاله . الله القوي القادر , القهار الجبار , الكبير المتعال . الله - سبحانه - يفرغ لحساب هذين الخلقين الضعيفين الصغيرين:الجن والإنس , في وعيد وانتقام !
إنه أمر . إنه هول . إنه فوق كل تصور واحتمال !
والله - سبحانه - ليس مشغولا فيفرغ . وإنما هو تقريب الأمر للتصور البشري . وإيقاع الوعيد في صورة مذهلة مزلزلة , تسحق الكيان بمجرد تصورها سحقا . فهذا الوجود كله نشأ بكلمة . كلمة واحدة . كن فيكون . وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر . . فكيف يكون حال الثقلين , والله يفرغ لهما وحدهما , ليتولاهما بالانتقام ?!
وفي ظل هذا الهول الرعيب يسأل الثقلين المسكينين:*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*!
ثم يمضي في الإيقاع المرعب المزلزل , يتحداهما أن ينفذا من أقطار السماوات والأرض:
يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوت والأرض فانفذوا . .
وكيف ? وأين ?
*لا تنفذون إلا بسلطان*.
ولا يملك السلطان إلا صاحب السلطان . .
ومرة أخرى يواجههما بالسؤال:*فبأي آلاء ربكما تكذبان*?
وهل بقي في كيانهما شيء يكذب أو يهم بمجرد النطق والبيان ?!
ولكن الحملة الساحقة تستمر إلى نهايتها , والتهديد الرعيب يلاحقهما , والمصير المردي يتمثل لهما:
*يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران*. .
*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*!
إنها صورة من الهول فوق مألوف البشر - وفوق مألوف كل خلق - وفوق تصور البشر وتصور كل خلق . وهي صورة فريدة , وردت لها نظائر قليلة في القرآن , تشبهها ولا تماثلها . كما قال تعالى مرة: *وذرني والمكذبين أولي النعمة*. . وكما قال:*ذرني ومن خلقت وحيدا*. . وما يزال قوله تعالى:*سنفرغ لكم أيها الثقلان*. . أعنف وأقوى وأرعب وأدهى . .
الدرس التاسع:37 - 78 مشاهد من عذاب الكفار وجنات للمتقين وجنتان لآخرين من أهل التقوى
ومن هنا إلى نهاية السورة تبدأ مشاهد اليوم الآخر . مشهد الانقلاب الكوني يوم القيامة . وما يعقبه من مشاهد الحساب . ومشاهد العذاب والثواب .
ويبدأ استعراض هذه المشاهد بمشهد كوني يتناسب مع مطالع السورة ومجالها الكوني:
*فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان*.
وردة حمراء , سائلة كالدهان . . ومجموع الآيات التي وردت في صفة الكون يوم القيامة تشير كلها إلى وقوع دمار كامل في هذه الأفلاك والكواكب , بعد انفلاتها من النسق الذي يحكمها الآن , وينسق بين مداراتها وحركاتها . منها هذه الآية . ومنها:*إذا رجت الأرض رجا , وبست الجبال بسا , فكانت هباء منبثا*. .
ومنها:*فإذا برق البصر , وخسف القمر , وجمع الشمس والقمر*. . ومنها:*إذا الشمس كورت , وإذا النجوم انكدرت , وإذا الجبال سيرت . وإذا العشار عطلت . وإذا الوحوش حشرت . وإذا البحار سجرت*. .
فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ *37* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *38* فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ *39* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *40* يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ *41* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *42* هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ *43* يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ *44* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *45* وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ *46* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *47* ذَوَاتَا أَفْنَانٍ *48* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *49* فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ *50* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *51* فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ *52* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *53* مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ *54* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *55*
ومنها:*إذا السماء انفطرت , وإذا الكواكب انتثرت . وإذا البحار فجرت*. . ومنها:*إذا السماء انشقت , وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت , وألقت ما فيها وتخلت , وأذنت لربها وحقت*. . وهذه وغيرها تشير إلى ذلك الحادث الهائل الذي سيقع في الكون كله . ولا يعلم حقيقته إلا الله .
*فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان*. .*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*ولا تكذيب عندئذ ولا نكران . .
*فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان*. . وذلك في موقف من مواقف ذلك اليوم المشهود . الذي ستكون فيه مواقف شتى . منها ما يسأل فيه العباد , ومنها ما لا يسألون فيه عن شيء . ومنها ما تجادل كل نفس عن نفسها , وما تلقي به التبعة على شركائها , ومنها ما لا يسمح فيه بكلمة ولا جدال ولا خصام ! فهو يوم طويل مديد . وكل موقف من مواقفه هائل مشهود .
وهنا موقف:لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان . ذلك حين تعرف صفة كل فرد وعمله . وتبدو في الوجوه معالم الشقوة سوادا , ومعالم النجوة بياضا , ويظهر هذا وذاك في سيما الوجوه . ففي هذا الموقف هل من تكذيب ونكران:*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*!
*يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام*.
وهو مشهد عنيف ومع العنف الهوان . حيث تجمع الأقدام إلى الجباه , ثم يقذف المجرمون على هذه الهيئة إلى النار . . فهل حينذلك من تكذيب أو نكران ?
وبينما المشهد معروض , والأخذ بالنواصي والأقدام والقذف في النار مستمر , يلتفت السياق إلى شهود هذا الاستعراض , وكأنهم حاضرون عند تلاوة السورة فيقول لهم:
*هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون*. . هذه هي حاضرة معروضة - كما ترون - *يطوف بينها وبين حميم آن*. . متناه في الحرارة كأنه الطعام الناضج على النار ! وهم يتراوحون بين جهنم وبين هذا السائل الآني . انظروا إنهم يطوفون الآن !*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*!
هذه ضفة العذاب الأليم . والآن إلى ضفة النعيم والتكريم:
*ولمن خاف مقام ربه جنتان*. .
وللمرة الأولى - فيما مر بنا من سور القرآن - تذكر الجنتان . والأظهر أنهما ضمن الجنة الكبيرة المعروفة ! ولكن اختصاصهما هنا بالذكر قد يكون لمرتبتهما . وسيأتي في سورة الواقعة أن أصحاب الجنة فريقان كبيران:هما السابقون المقربون . وأصحاب اليمين . ولكل منهما نعيم . فهنا كذلك نلمح أن هاتين الجنتين هما لفريق ذي مرتبة عالية . وقد يكون فريق السابقين المقربين المذكورين في سورة الواقعة . ثم نرى جنتين أخريين من دون هاتين . ونلمح أنهما لفريق يلي ذلك الفريق . وقد يكون هو فريق أصحاب اليمين .
على أية حال فلنشهد الجنتين الأوليين , ولنعش فيهما لحظات !
إنهما*ذواتا أفنان*. . والأفنان الأغصان الصغيرة الندية . فهما ريانتان نضرتان .
*فيهما عينان تجريان*. . فماؤهما غزير , وسهل يسير .
*فيهما من كل فاكهة زوجان*. . ففاكهتهما منوعة كثيرة وفيرة .
وأهل الجنتين ما حالهم ? إننا ننظرهم: *متكئين على فرش بطائنها من إستبرق*والإستبرق المخمل الحرير السميك . فكيف بظهائر هذه الفرش إذا كانت تلك بطائنها ?
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ *56* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *57* كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ *58* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *59* هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ *60* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *61* وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ *62* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *63* مُدْهَامَّتَانِ *64* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *65* فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ *66* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *67* فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ *68* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *69* فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ *70* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *71* حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ *72* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *73* لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ *74* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *75* مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ *76* فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *77* تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ *78*
*وجنى الجنتين دان*. . قريب التناول , لا يتعب في قطاف .
ولكن هذا لا يستقصي ما فيهما من رفاهة ومتاع . فهناك بقية بهيجة لهذا المتاع:
*فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان*. . فهن عفيفات الشعور والنظر . لا تمتد أبصارهن إلى غير أصحابهن , مصونات لم يمسسهن إنس ولا جن .
وهن - بعد هذا - ناضرات لامعات:*كأنهن الياقوت والمرجان*.
ذلك كله جزاء من خاف مقام ربه , وعبده كأنه يراه , شاعرا أن ربه يراه , فبلغ بذلك مرتبة الإحسان كما وصفها رسول الله [ ص ] فنالوا جزاء الإحسان من عطاء الرحمن:
*هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ?*
وفي معرض الإنعام والإحسان , كان التعقيب يجيء في موضعه بعد كل فقرة:*فبأي آلاء ربكما تكذبان ?*
والآن إلى الفريق الآخر صاحب الجنتين الأخريين .
*ومن دونهما جنتان*. . وأوصافهما أدنى من الجنتين السابقتين . فهما:
*مدهامتان*. . أي مخ